كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
الْفَرْقُ السَّابِعُ:
مِنْ الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ وَالْجَزَاءَ فِي كَوْنِ هَذِهِ تُضَافُ إلَى النَّفْسِ. وَتِلْكَ تُضَافُ إلَى اللَّهِ: أَنَّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ- وَهِيَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ- لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ إلَّا ذَنْبَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. فَانْحَصَرَتْ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ: فَإِنَّهُ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبِغَيْرِ عَمَلِهِ. وَعَمَلُهُ نَفْسُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْزِي بِقَدْرِ الْعَمَلِ بَلْ يُضَاعِفُهُ لَهُ. وَلَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى ضَبْطِ أَسْبَابِهَا لَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ. فَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى اللَّهِ. فَلَا يَرْجُو إلَّا اللَّهَ. وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ. وَيَعْلَمُ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ. وَأَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ التَّامَّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ. وَمِنْ الشُّكْرِ: مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ كَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ وَشُكْرِ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْك مِنْ غَيْرِهِمَا. فَإِنَّهُ «مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ» لَكِنْ لَا يَبْلُغُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ وَإِنْعَامِهِ: أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يُطَاعَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَخْلُوقٌ. وَنِعْمَةُ الْمَخْلُوقِ إنَّمَا هِيَ مِنْهُ أَيْضًا. قَالَ تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَجَزَاؤُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ. فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَاعَ مَخْلُوقٌ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ كَمَا قَالَ تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ}. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ. فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» وَقَالَ «مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ» وَقَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ».
وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا مُقَدِّرَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَّا اللَّهُ. فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ. وَأَنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الشُّكْرِ- الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ- صَارَ عِلْمُهُ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ: يُوجِبُ لَهُ الصِّدْقَ فِي شُكْرِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا مِنْ نَفْسِهِ لَكَانَ غَلَطًا. لِأَنَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِعَمَلِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ. وَمَا كَانَ لِعَمَلِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ. فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ. وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرَّ قَدْ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ. فَضَبَطَ ذَلِكَ وَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مِمَّا فَعَلَ وَتَابَ. وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ بَعْدُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ «لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ. وَلَا يَخَافَنَّ عَبْدٌ إلَّا ذَنْبَهُ».
وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ وَيُعَذِّبُ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ عَذَابًا دَائِمًا أَبَدًا بِلَا ذَنْبٍ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَخَافُ اللَّهُ خَوْفًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ. وَيُشَبِّهُونَ خَوْفَهُ بِالْخَوْفِ مِنْ الْأَسَدِ وَمِنْ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ فِعْلُهُ وَلَا سَطْوَتُهُ بَلْ قَدْ يَقْهَرُ وَيُعَذِّبُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَإِذَا صَدَّقَ الْعَبْدُ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عَلِمَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ وَيُعَاقِبُهُ إلَّا بِذُنُوبِهِ حَتَّى الْمَصَائِبَ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ كُلَّهَا بِذُنُوبِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ السَّلَفِ- ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ- أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْغَمِّ وَالْفَشَلِ: إنَّمَا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ. لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْ فَوَائِدَ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ- حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها- إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».
فصل:
الْفَرْقُ الثَّامِنُ:
أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ. وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ مَذْمُومَةٌ وَصَفَهَا بِالْخُبْثِ فِي مِثْلِ قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.
قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثَيْنِ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ: الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ. وَقَدْ قَالَ تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَقال الله: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتُ الْقَائِلِ الْفَاعِلِ. فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ مُتَّصِفَةً بِالسُّوءِ وَالْخُبْثِ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّهَا يَنْفَعُهُ إلَّا مَا يُنَاسِبُهَا. فَمَنْ أَرَادَ: أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ يُعَاشِرُونَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ: لَمْ يَصْلُحْ.
وَمَنْ أَرَادَ: أَنْ يُجْعَلَ الَّذِي يَكْذِبُ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ لَمْ يَصْلُحْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ: أَنْ يَجْعَلَ الْجَاهِلَ مُعَلِّمًا لِلنَّاسِ مُفْتِيًا لَهُمْ. أَوْ يَجْعَلَ الْعَاجِزَ الْجَبَانَ مُقَاتِلًا عَنْ النَّاسِ. أَوْ يَجْعَلَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ شَيْئًا سَائِسًا لِلنَّاسِ أَوْ لِلدَّوَابِّ: فَمِثْلُ هَذَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْعَالَمِ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُمْكِنٍ. مِثْلُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحِجَارَةَ تُسَبِّحُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ أَوْ تَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ كَالرِّيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالنُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْخُبْثِ شَيْءٌ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْفَسَادِ أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ. بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طُهِّرَتْ وَهُذِّبَتْ حَتَّى تَصْلُحَ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا نَجَوْا مِنْ النَّارِ- أَيْ عَبَرُوا الصِّرَاطَ- وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا: أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ».
وَهَذَا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ. فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا: أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا». وَالتَّهْذِيبُ: التَّخْلِيصُ كَمَا يُهَذَّبُ الذَّهَبُ. فَيَخْلُصُ مِنْ الْغِشِّ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ إنَّمَا يَدْخُلُهَا الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ التَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيَةِ مِنْ بَقَايَا الذُّنُوبِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يَعْبُرُ بِهَا الصِّرَاطَ؟. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا ثَابِتًا فَالْجَزَاءُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَسَنَةِ. فَإِنَّهَا مِنْ إنْعَامِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْبَاقِي الْأَوَّلِ الْآخِرِ. فَسَبَبُهَا دَائِمٌ فَيَدُومُ بِدَوَامِهِ. وَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ: لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وَقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ عَلِيمٌ حَلِيمٌ رَحِيمٌ عَدْلٌ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ جَارِيَةٌ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ. وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ». وَعُلِمَ فَسَادُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ وَلَا وَضْعٍ لِلْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. فَيَصِفُونَ الرَّبَّ بِمَا يُوجِبُ الظُّلْمَ وَالسَّفَهَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ شَهِدَ {أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي مَا يَفْعَلُ بِمَنْ فَعَلَ السَّيِّئَاتِ. بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْجَمِيعِ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُعَذِّبَ الْجَمِيعَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ وَيَغْفِرَ بِلَا مُوَازَنَةٍ. بَلْ يَعْفُو عَنْ شَرِّ النَّاسِ وَيُعَذِّبُ خَيْرَ النَّاسِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ وَلَا يَغْفِرُهَا لَهُ. وَهُمْ يَقُولُونَ: السَّيِّئَةُ لَا تُمْحَى لَا بِتَوْبَةِ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ لَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ.
قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَالْخَبَرِ خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُبَيِّنُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِمَنْ كَسَبَ السَّيِّئَاتِ إلَّا الْكُفْرَ. وَتَأَوَّلُوا قَوْله تعالى: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ: قَدْ يَكُونُ هُوَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ. كَمَا قَالَ تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُولُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الْقَدَرِ وَفِي الْوَعِيدِ. وَهَؤُلَاءِ قَصَدُوا مُنَاقَضَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ. فَأُولَئِكَ لَمَّا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَسَلَكُوا مَسْلَكَ نفاة الْقَدَرِ فِي هَذَا وَقَالُوا فِي الْوَعِيدِ بِنَحْوِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ. قَالُوا: إنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا. بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ مُؤَبَّدًا. فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ أَوْ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ- عِنْدَهُمْ- لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ أَبَدًا. بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ. فَخَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فِيمَا قَالُوهُ فِي الْقَدَرِ. وَنَاقَضَهُمْ جَهْمٌ فِي هَذَا وَهَذَا. وَسَلَكَ هَؤُلَاءِ مَسْلَكَ جَهْمٍ. مَعَ انْتِسَابِهِمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَأَتْبَاعِ السَّلَفِ. وَكَذَلِكَ سَلَكُوا فِي الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ مَسْلَكَ الْمُرْجِئَةِ الْغُلَاةِ كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ. وَجَهْمٌ اُشْتُهِرَ عَنْهُ نَوْعَانِ مِنْ الْبِدْعَةِ: نَوْعٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَغَلَا فِي نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَوَافَقَهُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ دُونَ الْأَسْمَاءِ. والْكُلَّابِيَة- وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ السالمية. وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ- وَافَقُوهُ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ دُونَ نَفْيِ أَصْلِ الصِّفَاتِ. وَالْكَرَامِيَّة وَنَحْوُهُمْ: وَافَقُوهُ عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ. وَهُوَ امْتِنَاعُ دَوَامِ مَا لَا يَتَنَاهَى. وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَفَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ إذَا شَاءَ. لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. وَهُوَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ- الَّذِي هُوَ نَفْيُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ- قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو الهذيل إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذَا لَكِنْ قَالَ: بِتَنَاهِي الْحَرَكَاتِ. فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ: مَخَانِيثُ الْجَهْمِيَّة.
وَأَمَّا الْكُلَّابِيَة: فَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّونَ وَلَكِنَّهُمْ- كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ-: الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ. وَهُمْ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا. لِأَنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَهْمًا سَبَقَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا الْأَصْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَخَانِيثُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِلَّا فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْفَلَاسِفَةِ كَبِيرَةٌ جِدًّا. وَالشِّهْرِسْتَانِي يَذْكُرُ عَنْ شُيُوخِهِمْ: أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا أَخَذُوا عَنْ الْفَلَاسِفَة. لِأَنَّ الشِّهْرِسْتَانِيّ إنَّمَا يَرَى مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. فَإِنَّ مُنَاظَرَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مَعَ الْجَهْمِيَّة. وَهُمْ الْمَشْهُورُونَ عِنْد السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ. وَأَهْلُ النَّفْيِ لِلصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلِ لَهَا: هُمْ عِنْد السَّلَفِ يُقَالُ لَهُمْ: الْجَهْمِيَّة. وَبِهَذَا تَمَيَّزُوا عِنْدَ السَّلَفِ عَنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَامْتَازُوا بِقَوْلِهِمْ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لِمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ لِلْجَمَاعَةِ فَيَقُولُ قتادة وَغَيْرُهُ: أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ.
وَبَعْدَهُمْ حَدَثَتْ الْجَهْمِيَّة. وَكَانَ الْقَدَرُ: قَدْ حَدَّثَ أَهْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَابْنُ عُمَرَ مَاتَ عَقِبَ مَوْتِهِ وَعَقِبَ ذَلِكَ تَوَلَّى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ سَنَةَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ. فَبَقِيَ النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَكْثَرُهُ: كَانَ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ بِالْبَصْرَةِ وَأَقَلُّهُ: كَانَ بِالْحِجَازِ. ثُمَّ لَمَّا حَدَثَتْ الْمُعْتَزِلَةُ- بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ وَتُكُلِّمَ فِي الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَقَالُوا بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَخُلُودِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا. وَهَذَا تَغْلِيظٌ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ- ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ الْقَدَرَ. فَإِنَّ بِهِ يَتِمُّ التَّغْلِيظُ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ. وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إذْ ذَاكَ قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ. إلَى أَنْ ظَهَرَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَهُوَ أَوَّلُهُمْ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا. تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ. فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. إنَّهُ زَعَمَ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا» ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. ثُمَّ ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ تِرْمِذَ. وَمِنْهَا ظَهَرَ رَأْيُ جَهْمٍ. وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالْمَشْرِقِ: أَكْثَرَ كَلَامًا فِي رَدِّ مَذْهَبِ جَهْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ مِثْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان وَخَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَثَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمْ- وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَمِّهِمْ- وَابْنُ الماجشون وَغَيْرُهُمَا وَكَذَلِكَ الأوزاعي وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَتُهُمْ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ. فَإِنَّهُمْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا وَكَثُرُوا. فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً. وَاجْتَمَعَ بِهِمْ. ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طرسوس سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيهَا مَاتَ. وَرَدُّوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ إلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ. وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ. فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانُهُمْ إيَّاهُمْ: جَهْلٌ وَظُلْمٌ. وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إطْلَاقَهُ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتْ الشَّنَاعَةُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَامَّةِ وَخَافُوا الْفِتْنَةَ. فَأَطْلَقُوهُ. وَكَانَ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد قَدْ جَمَعَ لَهُ نفاة الصِّفَاتِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ. فَجَمَعَ لَهُ مِثْلُ أَبِي عِيسَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بُرْغُوثٍ مِنْ أَكَابِرَ النجارية أَصْحَابِ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ. وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ- كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد، وَإسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ- يُسَمُّونَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ: جهمية. وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ- مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ- يَظُنُّونَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا الْمُعْتَزِلَةَ. وَيَظُنُّونَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيَّ- وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مِحْنَةِ أَحْمَد وَابْنِ أَبِي دؤاد وَنَحْوِهِمَا- كَانُوا مُعْتَزِلَةً. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ الْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا نَوْعًا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَكَانَتْ الْجَهْمِيَّة أَتْبَاعَ جَهْمٍ والنجارية أَتْبَاعَ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ والضرارية أَتْبَاعَ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو وَالْمُعْتَزِلَةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ جَهْمًا اُشْتُهِرَ عَنْهُ نَوْعَانِ مِنْ الْبِدْعَةِ. أَحَدُهُمَا: نَفْيُ الصِّفَاتِ، وَالثَّانِي: الْغُلُوُّ فِي الْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءُ. فَجَعْلُ الْإِيمَانِ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ. وَجَعْلُ الْعِبَادِ لَا فِعْلَ لَهُمْ وَلَا قُدْرَةَ. وَهَذَانِ مِمَّا غَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي خِلَافِهِ فِيهِمَا. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ: فَوَافَقَهُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ قَدْ يُنَازِعُهُ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ. وَجَهْمٌ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ- لَا الْإِرَادَةَ وَلَا غَيْرَهَا- فَهُوَ إذَا قَالَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الطَّاعَاتِ وَيُبْغِضُ الْمَعَاصِيَ. فَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ: فَهُوَ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ- كَالْإِرَادَةِ- فَاحْتَاجَ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْإِرَادَةِ: هَلْ هِيَ الْمَحَبَّةُ أَمْ لَا؟ وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ: هَلْ يُحِبُّهَا اللَّهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: إنَّ الْمَعَاصِيَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا كَمَا يُرِيدُهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَبْلَهُ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَعَاصِيَ. وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيّ فِي الْمُوجَزِ: أَنَّهُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَهُ طَائِفَةٌ سَمَّاهُمْ. أَشُكُّ فِي بَعْضِهِمْ.